منجم الذهب في علم الأمراض: إمّا أن نستغله… أو نفقده

كل يوم، تُنتج أقسام علم الأمراض حول العالم بيتابايتات من البيانات — من صور الشرائح الرقمية، والاختبارات الجزيئية، والتقارير المخبرية، إلى تسلسلات الجينوم. هذه البيانات تُعدّ واحدة من أغنى وأضخم وأثمن الموارد في قطاع الرعاية الصحية.

ومع ذلك، تبقى معظم هذه البيانات غير مستغلة — مدفونة في أنظمة مجزأة، أو محجوزة في صوامع رقمية لا تتواصل مع بعضها البعض. حتى داخل المؤسسة الواحدة، نجد أن الربط بين البيانات السريرية الموجودة في السجلات الطبية الإلكترونية وبين بيانات التشخيص أو التحاليل الجزيئية من قسم علم الأمراض يكاد يكون معدومًا.

تتحدث هذه الأنظمة بلغات رقمية مختلفة، ونادرًا ما تتشارك السياق ذاته. ونتيجة لذلك، تضيع رؤى مهمة — مثل كيف أثّر تغير جزيئي على العلاج، أو كيف ارتبط التشخيص بنتائج المريض. هكذا تضيع الفرصة لتعلّم شيء من كل حالة، ولربط التشخيص بالتنبؤ بالمآلات السريرية.

ولجعل الأمور أكثر صعوبة، ما يزال الوصول إلى البيانات يعتمد على عمليات يدوية معقدة. إذ يقضي الفرق ساعات طويلة في إعداد جداول Excel أو ملفات CSV لمطابقة البيانات الوصفية مع الصور أو التقارير الأصلية، وغالبًا ما يُعهد بهذه العملية إلى وسطاء يسمّون “الوكلاء الموثوقين”. هذه الطريقة غير الفعالة أصبحت من أكبر العوائق أمام التقدم، إذ تجعل ثروة علم الأمراض من البيانات موردًا محدود الاستخدام لا يُستفاد منه إلا في مشاريع بحثية صغيرة، بدلًا من أن يكون أداة لتغيير جذري في رعاية المرضى.

وفي الوقت نفسه، يتقدم الذكاء الاصطناعي بسرعة مذهلة — سواء شارك علم الأمراض في ذلك أم لا. فالمؤسسات الكبرى وشركات التكنولوجيا تبني اليوم نماذج أساسية ضخمة تُدرّب على بيانات متعددة الأنماط تجمع بين النصوص والصور والمعلومات الجزيئية. هذه الأنظمة بدأت بالفعل في اكتشاف أنماط دقيقة، والتنبؤ بالطفرات، وحتى توليد التقارير التشخيصية.

الذكاء الاصطناعي لن ينتظر علم الأمراض ليلحق به. وإذا لم يمتلك هذا التخصص بياناته، فسيجد نفسه مجرد مزوّد سلبي للمعلومات بدل أن يكون قائدًا في الابتكار الطبي. فعندما يدير الآخرون بياناتك ويجنون أرباحها، لا تفقد السيطرة فقط — بل تفقد التأثير والهوية والمكانة.

البيانات اليوم هي النفط الجديد، لكنها بلا قيمة إن لم تُكرّس لها البنية التحتية والإدارة والحَوْكمة. والتاريخ واضح: الدول التي بنت بنية تحتية واستثمرت في مواردها أصبحت قوى عالمية، أما التي لم تفعل، فظلت تابعة لغيرها.
علم الأمراض يقف اليوم على مفترق طرق مشابه.

الأقسام التي تستثمر في أنظمة بيانات معيارية وقابلة للتكامل، وفي عمليات رقمية تولّد رؤى منظمة، وفي أطر حوكمة تحافظ على الخصوصية والجودة والعدالة — هي التي ستصبح العمود الفقري للطب الدقيق. أما التي تفشل في ذلك، فستنتهي كمجرد مورّد بيانات لتغذية ذكاء اصطناعي يملكه الآخرون.

الهدف ليس مجرد “تبني الذكاء الاصطناعي” — بل امتلاك المنظومة التي تجعله ممكنًا.
العقد القادم سيحدد إن كان علم الأمراض سيقود هذا التحول، أم سيُقاد من قِبله.

الأقسام التي ستزدهر هي تلك التي تدرك أن البيانات ليست مشكلة تقنية، بل أصل استراتيجي للمؤسسة. وأن علم الأمراض الرقمي ليس مركز تكلفة، بل قاعدة السيطرة المستقبلية. وأن الحوكمة ليست بيروقراطية، بل رافعة للقوة.

منجم الذهب موجود بالفعل. لكن ما لم تُبنَ له الأنابيب، وتُوضع له الاستراتيجية، وتُحكَم إدارته — فسيستغله غيرنا.
مستقبل علم الأمراض لن يُحسم بعدد الشرائح، بل بمن يديرها بأفضل طريقة.

الوقت للتحرك هو الآن.